مرت الذكرى الثانية لرحيل الشاعر الكبير محمد الماغوط دون أن يلتفت إليها أحد لا المؤسسات الرسمية السورية أو العربية ولا المؤسسات الأهلية حتى دور النشر التي طبعت مجموعات الماغوط الشعرية أو مسرحياته لم نسمع أن واحدة منها فكرت بإعادة طبع واحد من كتبه على سبيل التذكير بأهمية هذا الشاعر الذي غير بقصائده مسار الكتابة الشعرية العربية في النصف الثاني من القرن العشرين.
لم تلتفت إلى ذكرى الرجل أيضا معارض الكتب العربية التي أقيمت مؤخرا في عدد من العواصم العربية ، وبعض هذه العواصم عمل الماغوط في صحافتها ، وأقام بين ظهرانيها ردحا من عمره. المدهش أن هذا النسيان ينسجم مع طبيعة سلوك الماغوط 1934( ــ )2006 وعوالمه الشعرية. فهو ينتمي إلى طائفة من الشعراء الفطريين الذين تفجرت موهبتهم في سن مبكرة وجاءت مختلفة مغايرة للسائد ، ثائرة على التقاليد الشعرية.
هكذا بدا شعر الماغوط منذ نشر قصيدته الأولى في مجلة "شعر" اللبنانية في خمسينات القرن الماضي أقرب إلى الشعراء الصعاليك والمتمردين في تاريخ الشعر العربي ، وتاريخ الشعر في العالم كذلك. كان أقرب إلى الفطرة اللغوية المتفجرة التي تبحث لها عن شكل مختلف في الكتابة. إنه ، رغم تخففه من الوزن والإيقاع في الكتابة الشعرية واتخاذه سبيل النثر ، أقرب إلى طرفة بن العبد ، والشنفرى ، والسليك بن السلكة ، في لجوئه إلى الهامش والرصيف والضال في قاموس التقاليد الاجتماعية والشعرية. ثمة في شعره انثيال وتفجر بمعاني التمرد ، لكن قصيدته تبدو محبوكة ومتجهة إلى ذروة محددة ، مبنية رغم التفكك البادي عليها والبدايات الكثيرة التي تشطر جرمها الصغير ، والتأتأة التي تغلب على القول الشعري فيها ، حتى تصل إلى نهايتها المفاجئة التي تعلن عن تمرد الشاعر ورغبته في الخروج عن التقاليد والمواضعات القاسية التي يفرضها المجتمع على أبنائه.
في شعر الماغوط يتحالف التمرد على التقاليد مع التمرد على الشكل ، ويمثل الخروج على السائد غاية نفسية يعضدها تحلل القصيدة من ميراثها الشكلي والإيقاعي. لا يبدو الماغوط سائرا على هدى من سبقوه من شعراء قصيدة النثر: لا صلة لشعره بسليمان عواد أو أورخان ميسر ، لا نسب يربطه بجبران خليل جبران أو أمين الريحاني ، بل اقتراب صاعق من عوالم رامبو وفيرلين وبودلير وأصحاب النبرة الجهنمية في خريطة الشعر العالمية.
لا بد أن الماغوط قرأ شعر بعض هؤلاء المترجم إلى العربية ، وقد كانت "شعر" تقدم شعراء العالم إلى قرائها بصورة مستمرة: وإدعاء الشاعر الراحل بأنه قليل القراءة لا يعفيه من تأثيرات سرية مارسها شعراء ينتسب هو إلى عالمهم دون أن يدري ، ويسير على هداهم بسبب تشابه العوالم وتشابك الاستعدادات النفسية ، ونزعة التمرد على كل شيء التي تربط الماغوط بهؤلاء بحبل سري يمتد عميقا في قاع شعره.
ومع ذلك كان الرجل أقرب إلى الفطرة الأولى ، إلى المنابع السرية للكتابة الشعرية التي تصدر عن إحساس عميق بالطبيعة الصافية للإنسان المتمرد ، الغاضب ، الثائر على الظلم والاستبداد ، البسيط الذي لم تلوثه المدينة.